مُلخصٌ فى ثوانٍ: تقديم الحرب في أوكرانيا على أنها جريمة، الجناة وضحاياهم، روسيا هل هى الجانى الوحيد؟، دعم الإستبداد فى الجمهورية الروسية الوليدة، إنتشار أموال الفساد فى كل مكان، ما يمكنك توقعة فى مقالنا القادم.
فى نهاية مقالي السابق، “الهستيريا الأوكرانية، (1) هل علينا الإهتام بهذه الحرب؟”، وعدتُ بتناول الحرب الأوكرانية كما لو كانت جريمة، وهو ما أنوي القيام به اليوم. ونظرًا لعدم توفر المعلومات التفصيلية عن هذه الحرب فإننى سأستخدم قواعد التفكير الاستقصائي1 لتحليل المعلومات المتاحة حول هذه الحرب وتكوين صورة عامة لها.
الجناة وضحاياهم فى الهستيريا الأوكرانية
لا يمكننا التسرع ف إتهام الشخص الذي أطلق النار أولاً بأنه الجاني الوحيد لأي جريمة. فقد تعلمنا من دروس التاريخ أنه في العديد من المواجهات العنيفة بين مجموعات البشر، كان هناك دورٌ للقرارات التي تم إتخاذها خلف الأبواب المغلقة، قبل أيام أو حتى سنوات من إطلاق الطلقة الأولى. وصراعنا الحالى لايختلف عن ذلك. ونظراً لعدم توفر الأدلة التى لاتثير الشك حول صحتها فيما يتعلق بهذا الصراع، يبدو لى أنه من السهل التعرف أولاً على ضحايا الحرب ومن ثم البحث عن من تسبب فى إيذائهم.
هناك العديد من أنواع الضحايا في النسخة الحالية من الصراع الأوكراني الطويل الأمد. فهناك من ضحوا بدمائهم وأرواحهم، وهناك من ضحوا بمواردهم وممتلكاتهم والمجتمعات التى عاشوا فيها طوال عمرهم. وعلينا ألا ننسى ملايين البشر فى الشرق الأوسط وأفريقيا الذين أفقدتهم هذه الحرب القدرة على توفير لقمة العيش لأنفسهم ولأطفالهم.
ليس هناك شك في أن الأوكرانيين، سواءُ كانو من العسكريين أو المدنيين، هم من يدفعوا الثمن الباهظ لهذه الحرب. ولكن هناك معاناه على الجانب الروسي أيضاً. فالروس ضحايا نظام استبدادي يعمل على إرضاء شخص واحدٌ فقط، وهو “الزعيم المفدى”. هذا الديكتاتور الجالس على قمة هرم من الفساد والقهر محاطٌ بعشيرة من المنتفعين الذين يدعموا من وفر لهم فرصة سرقة الشعب الروسى دون عقاب. المجندون الروس ليسوا سوى شبابٌ فى سن المراهقه أُجبروا على الانخراط في صراعٍ طاحن بدون دراية بهوية من يقاتلوهم. وقائمة ضحايا هذه الحرب لا تتوقف عند الحدود الروسية الأوكرانية بل تمتد إلى العديد من الأشخاص ذوي البشرة السمراء الذين يعيشون على بعد آلاف الأميال من طنين هذه الحرب، والكثير منهم لم يسمعوا بكلمة “أوكرانيا” من قبل.
إذا كان هؤلاء هم ضحايا هذه الحرب، فمن هم الجناة؟ من الواضح أن الروس هم المشتبه بهم بشكلٍ رئيسي في إرتكاب هذه الجريمة. فجنودهم هم من عبروا الحدود مع جيرانهم، وهم من قصفوا المدن والقرى الأوكرانية بشكل عشوائي، وهم من قتلوا وجرحوا آلاف الأوكرانيين وشردوا الملايين منهم.
ولكن الروس ليسوا بمفردهم فى خانة المتهمين بإشعال هذا الصراع، فهناك العديد من المتهمين المُقنّعين ذوى الهوية المجهوله. هناك مُشتبه بهم قاموا بدورٍ في تمهيد الطريق للغزو الروسي، مثل الدول الأعضاء في حلف الناتو، وبشكلٍ خاص الولايات المتحدة. تظهر بصمات هذه الدول على السياسة التى إتبعتها دول حلف الناتو والتى أدت لإبتلاع دول أوروبا الشرقية التى كانت جزءًا من حلف وارسو السابق. وهو ماحرم روسيا من نطاق الأمان الذى كان الروس يتمتعون به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فبعد إنهيار الإتحاد السوفيتى فى سنة 1991، كان جنود الناتو يقفوا على الجانب الألماني من حدودهم المشتركة مع بولندا، أماالآن فإن جنودهم ينظروا بشكل مباشر فى أعين نظرائهم الروس عبر حدود دول البلطيق وبيلاروسيا.
فهل كان للروس الحق المشروع للرد على الإنكماش البطيء والمُتَعمّد للمنطقة العازلة الذى أنشأوها وحافظوا عليها على طول حدودهم الشرقية، بعد المعاناه المروعة التى مروا بها خلال الحرب العالمية الثانية؟
الولايات المتحدة، مع بعض المساعدة من حلفائها الغربيين مسؤولة بشكل غير مباشر عن إنشاء النظام الاستبدادي الذي سيطر على الجمهورية الروسية منذ قيامها في عام 1991. بوريس يلتسين، وهو سياسى مخمور وفاسد، استولى على منصب “أول رئيس منتخب للجمهورية الروسية” بمساعدة الولايات المتحدة. واستمر فى منصبه، بدعم من الولايات المتحدة، حتى اليوم الأخير من حقبة التسعينيات من القرن الماضى.
دلائل هذا الدعم تم نشرها فى العديد من الصحف الأمريكية المرموقة2. كما قامت مذكرة، رُفعت عنها السرية حديثًا، بفتح نافذة على العلاقة بين بوريس يلتسين (رئيس الجمهورية الروسية) وبيل كلينتون (الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت) خلال عام 1999 وهو العام الأخير من حكم الرئيس يلتسين3. وأوضحت هذه المذكرة كيف قدّم يلتسين فلاديمير بوتين للرئيس الأمريكى، كخليفة له فى رئاسة الجمهوريةالروسية، وكيف طلب مباركته لذلك.
إستمر نظام اللصوص الفاسد فى السيطرة على السلطة فى الجمهورية الروسية لما يقرب من ثلاثين عاماً. خلال هذه الفترة الطويلة قام خلالها هؤلاء اللصوص بإختلاس مليارات الدولارات من مقدرات المواطنين الروس المضطهدين والعاجزين عن الدفاع عن أنفسهم. بدأت عمليات الإختلاس بعد فترة وجيزة من انتخاب بوريس يلتسين في عام 1991، واستمرت بشكل منظم طوال فترة حكمه والتي دامت حتى اليوم الأخير من التسعينيات. بعد ذلك تفاقم الفساد والسرقة للموارد الروسية خلال فترة حكم فلاديمير بوتين التي استمرت لأكثر من عقدين من الزمان.
في عام 1997، نشرت مجلة فوربس 4 “قائمة المليارديرات في العالم” والتي ضمت ولأول مرة أسماء أربعة من الروس. أطلقت عليهم المجلة اسم “طليعة الأوليجارك5 الروس” الذين تمكنوا من جمع ثرواتهم خلال فترة الخصخصة، والتى تميزت بالفوضى في التسعينيات من القرن الماضى. وفي أبريل من العام الماضى*، أحصت المجلة نفسها 83 مليارديرًا روسيًا في “قائمة المليارديرات” السنوية ، واعتبرت المجلة أن 68 منهم يمكن تصنيفهم على أنهم من “الأوليجارك”. إذا كانت مجلة فوربس على علم بمن هم على قائمة المليارديرات من حاملى الجنسية الروسية، فهل تعتقد أن وكالات الاستخبارات الغربية، ذات القدرات الهائلة، لم تكن على دراية بوجودهم؟
لم يختبئ هؤلاء القلة من “الأوليجارك” خلف أبواب قصورهم ولم يدفنوا مانهبوه من أموال في أصقاع سيبيريا. لقد اشتروا شققًا فاخرة في شوارع شهيرة في مدننا الكبرى وتواصلوا إجتماعياً مع أصحاب المال والسلطة منا. أمروا أحواض بناء السفن لدينا ببناء يخوت بمئات الملايين من الدولارات، وقاموا بالتفاخر بها في موانئنا ومياهنا الأقليمية. قاموا بشراء فرق رياضية شهيرة في بلادنا وشاركوا فى مسيرات إنتصار لاعبيها فى شوارع عواصمنا. ورأينا وجوههم على شاشات تلفيزيوناتنا عقب كل مرة يشتروا ماسة نادرةأو لوحة بمئات الملايين من الدولارات. لم يختبئوا منا، لقد كانوا في وجوهنا طوال الوقت ولم يجرؤ أحد على أن يسألهم “كيف حصلتم على هذه المليارات؟” و “ما هو مقدار الفساد الذي تم إلحاقه بمجتمعاتنا بهذه الأموال السوداء المنهوبة ؟”
وهنا دعنى أطرح السؤال التالى، هل تم إجراء هذا التحويل الضخم “للأموال المنهوبة” دون علم وكالات الاستخبارات “الشهيرة” في أوروبا والولايات المتحدة، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر والتى فى أعقابها تم وضع كل قرش يعبر الحدود الدولية تحت مجهر التحرى والمتابعه عن كثب؟ أنا لا أعتقد ذلك!.
في تقريره لعام 2020 6، ذكر مركز الأبحاث الأمريكي المعروف بإسم “المجلس الأطلنطى” أن الروس لديهم حوالي “تريليون دولار أمريكي” من “الأموال السوداء المنهوبة” والمخبأة خارج جمهورية روسيا. وأضاف التقرير “يمكن استغلال هذه الأموال وتوجيهها من قبل الكرملين للعمليات السرية والإرهاب والتجسس الصناعي والرشوة والتلاعب السياسي والتضليل والعديد من الأغراض الشائنة الأخرى”.
وفي المقال القادم، سأقوم بوصف مسار الحرب الأوكرانية منذ بدأت وحتى الآن.
مراجع:
1. عملية التحقيق الجنائي: وفقًا لعلماء الجريمة ، لفهم عملية التحقيق الجنائي ، من الضروري التعرف على التمييز بين مهام التحقيق والتفكير الاستقصائي. بينما تركز مهام التحقيق على عملية جمع المعلومات ، يركز التفكير الاستقصائي على عملية تحليل المعلومات والتنظير لتطوير خطط التحقيق.
https://pressbooks.bccampus.ca/criminalinvestigation/chapter/chapter-4-the-process-of-investigation/
2. الأمريكيون يدّعُون وجود دور لهم في فوز يلتسين
لوس انجليس تايمز – بقلم: إليانور راندولف: 9 يوليو 1996 @ 12 صباحًا بتوقيت المحيط الهادئ
https://www.latimes.com/archives/la-xpm-1996-07-09-mn-22423-story.html
3. “رجل صلب” من بوتين: المذكرات التي رفعت عنها السرية تفتح نافذة على علاقة يلتسين وكلينتون
راديو أوروبا الحرة – راديو الحرية – بقلم: مايك إيكل: 30 أغسطس 2018 الساعة 20:58 بتوقيت جرينتش
4. دليل فوربس النهائي لحكم القلة الروسية
فوربس : بقلم: جياكومو تونيني وجون حياة – تم التحديث في 14 أبريل 2022
5. أوليجارك: رجل أعمال شديد الثراءبالإضافة لتمتعه بقدر كبير من التأثير السياسي
6. الأوليجارك الروس: أين يخفون “أموالهم السوداء المنهوبة”؟
بي بي سي نيوز – تم النشر في 28 مارس
https://www.bbc.com/news/world-60608282
*تم نشر هذه المقالة لأول مرة في يونيو 2022 وذلك في مدونتي السابقة “إسلامي”، و تم تعديلها بشكلٍ طفيف لتتوافق مع تاريخ نشرها الحالي.