ملخص في ثوانٍ: بعد ستة أشهر من ولايته الثانية، ضاعف دونالد ترامب من جهوده في تنفيذ أجندته المميزة ”أمريكا أولاً“ – توسيع نطاق الرسوم الجمركية، وإلغاء القيود التنظيمية، ودفع الحوافز الضريبية للشركات لتعزيز الصناعة المحلية. ينسب إليه مؤيدوه الفضل في تنشيط الصناعة التحويلية والأسواق الأمريكية، بينما يحذر منتقدوه من ارتفاع التضخم، وتوتر العلاقات التجارية العالمية، ونقص العمالة، واتساع الفجوة بين الطبقات. على الصعيد الخارجي، أدت سياساته إلى تسريع الانفصال الاقتصادي عن الصين، واختبار التحالفات في أوروبا، وتعميق عزلة الولايات المتحدة عن الأطر المتعددة الأطراف. على الصعيد الداخلي، برزت سياسات مشددة للهجرة، وإصلاحات محدودة في الرعاية الصحية، واعتماد كبير على الأوامر التنفيذية، في مشهد رئاسي يتسم بالاضطراب والقومية والانقسام.
بعد ستة أشهر من ولايته الثانية، لم يترك ترامب مجالًا للشك في مسار سياسته الاقتصادية: رسوم جمركية جريئة، وتحرير عميق للأسواق، ونهج “أمريكا أولاً” دون تراجع. يرى المؤيدون انتعاشًا للصناعة الأمريكية. بينما يرى المنتقدون ارتفاعًا في التكاليف، وتباطؤًا في النمو العالمي، وتزايدًا في المخاطر. الواقع، حتى الآن، هو خليط من مكاسب قصيرة الأمد الأجل وعدم يقين طويل المدى.
الرسوم الجمركية: صدمة للنظام
الخطوة الأبرز جاءت مع فرض رسوم جمركية واسعة على أكبر شركاء التجارة للولايات المتحدة. فقد فرضت واشنطن تعريفات تراوحت بين 10% و50%، شملت ضريبة بنسبة 34% على الواردات الصينية و10% على البضائع البريطانية. وعد ترامب بأن هذه الخطوة ستعيد المصانع والوظائف، واصفًا إياها ببداية “عصر ذهبي جديد”.
لكن الأسواق لم تقتنع بذلك. تراجعت الأسهم بعد الإعلان، وحذر خبراء الاقتصاد من ارتفاع أسعار المستهلك وتباطؤ النمو العالمي. وتشير توقعات مؤسسة أوكسفورد إيكونوميكس إلى أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي قد ينخفض هذا العام إلى أقل من 2%، وهو الأضعف منذ أزمة 2008 (باستثناء فترة الوباء).
ردود الفعل جاءت سريعة. فقد فرضت الصين رسومًا مماثلة بنسبة 34% على جميع الواردات الأمريكية، مما أدى إلى موجة هبوط جديدة في الأسواق. كما استعد الاتحاد الأوروبي لفرض رسوم بنسبة 20% على صادراته، وهو ما قد يقلص النمو الأوروبي بمقدار ربع نقطة مئوية. الصين بدورها قد تخسر نحو ثلاثة أرباع النقطة، بينما تواجه اقتصادات أصغر مثل فيتنام وكمبوديا تعريفات تقترب من 50%، بما قد يخلّف آثارًا مدمرة.
أما بريطانيا، فمن المرجح أن تتعرض لأضرار محدودة، نظرًا لفائضها التجاري المتواضع مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، تبقى الصورة الأوسع واضحة: أمريكا تعزل نفسها بينما يسعى باقي العالم إلى تعزيز التجارة الحرة.
الاقتصاد المحلي: النمو في مواجهة التضخم
داخليًا، واصل ترامب النهج نفسه الذي اتبعه في ولايته الأولى – الإعفاءات الضريبية للشركات، وتخفيف واسع للقيود التنظيمية، ودعم متزايد لقطاع الوقود الأحفوري. وقد شهد قطاعا الصناعة والبناء زيادات متواضعة في الوظائف، وتفضل العقود الفيدرالية بشكل متزايد السلع المصنوعة في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن الرسوم الجمركية جاءت بتكاليف مرتفعة. فبدلًا من تقوية الدولار، أدت الحرب التجارية إلى إضعافه، مما رفع أسعار الواردات وساهم في تأجيج التضخم. ورغم ارتفاع الأجور بشكل طفيف، فإن ارتفاع تكاليف المعيشة قلوض المكاسب الحقيقية للعديد من الأسر.
يحذر جيرارد ليونز1، كبير الاستراتيجيين الاقتصاديين في نت ولِث، من أن صانعي السياسات باتوا يفتقرون إلى الأدوات الكافية. “قد تكون قدرة السياسة النقدية على امتصاص الصدمات مقيدة الآن بفعل الآثار التضخمية للرسوم الجمركية.”
التأثيرات العالمية
لا تزال الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم، لكن وزنها النسبي تراجع مقارنة بالعقود الماضية. ومع أن 80% من التجارة العالمية لا ترتبط مباشرة بأمريكا، فإن دولًا أخرى بدأت تبحث عن بدائل للتكيّف. أوروبا وآسيا تتحركان بالفعل نحو تعميق العلاقات التجارية فيما بينهما، مما قد يؤدي إلى تجاوز الولايات المتحدة تمامًا.
غير أن حالة عدم اليقين تبقى العامل الأكثر خطورة. فالشركات تتردد في الاستثمار، وسلاسل التوريد تتعطل، وتتذبذب الأسواق عندما لا تستطيع التنبؤ بما ستفعله واشنطن بعد ذلك. ويصف جوردي غوال، الرئيس السابق لبنك كايكس2، ذلك بأنه “استراتيجية المجنون” – أي استخدام عدم القدرة على التنبؤ كوسيلة للضغط.” قد ينجح ذلك في الجغرافيا السياسية، لكنه في الاقتصاد يولّد حالة من الغموض تقوّض النمو والاستقرار.”
الطريق إلى الأمام
حتى الآن، تتسم سياسات ترامب الاقتصادية في ولايته الثانية بالتناقض. فالأسواق ما زالت مرنة ومتماسكة، والشركات الأمريكية متفائلة، وبعض الصناعات تستفيد بالفعل من ذلك. لكن التكاليف تتزايد: تضخم مرتفع، وإجراءات والانتقام التجاري ، والضغوط المالية، وتعميق الإنقسامات العالمية.
المغامرة التي يخوضها ترامب بسيطة واضحة لكنها محفوفة بالمخاطر — التضحية بالاستقرار الآن من أجل وعد بإحياء صناعي طويل الأمد. وما إذا كان هذا الانتعاش سيتحقق فعلًا، أو ستجد الولايات المتحدة نفسها معزولة في عالم مترابط، هو ما سيحدد الإرث الحقيقي لهذه التجربة الاقتصادية.
وكما يقول نيل شيرينغ3، كبير الاقتصاديين في كابيتال إيكونوميكس: “المسألة لا تتعلق فقط بما ستحققة سياسة الرسوم الجمركية، بل بمجموعة واسعة من النتائج المحتملة. ولا توجد سوابق تاريخية واضحة لهذه الحالة“.
الخلاصة
سياسات ترامب الاقتصادية جريئة ومثيرة للجدل، وتعيد صياغة الاقتصاد الأمريكي والعالمي. غير أنه بعد ستة أشهر، يبقى الحكم معلقًا: هل نحن أمام بداية عصر ذهبي جديد، أم مجرد مقامرة مكلفة بعوائد غير مضمونة؟
المصادر
* زولاندز، مايكل، وآخرون. ”ستة أشهر على بداية ولاية ترامب الثانية: اتجاهات متغيرة في سياسة العقوبات الأمريكية وتنفيذها“. DENTONS، 22 يوليو 2025
https://www.dentons.com/en/insights/alerts/2025/july/22/six-months-into-trumps-second-term
* ستيوارت، هيذر؛ وبارتينجتون، ريتشارد. ”من الناحية الاقتصادية، لا معنى على الإطلاق للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب“. ذا غارديان، 4 أبريل 2025.
الملاحظات
1. نيل شيرينغ – كبير الاقتصاديين في مجموعة كابيتال إيكونوميكس، متخصص في الاقتصاد الكلي العالمي؛ حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة لندن.
2. جوردي جوال – رئيس مجلس إدارة CaixaBank السابق وأستاذ في IESE Business School؛ حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة كاليفورنيا، بيركلي.
3. جيرارد ليونز – كبير الاستراتيجيين الاقتصاديين في Netwealth ومستشار سابق لعمدة لندن؛ حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة لندن.